كتابان عن «عقل بوتين».. واستراتيجية روسيا
الإثنين 07-03-2022 23:02 | كتب: لوسي عوض |
أثارت عودة روسيا الاتحادية إلى ساحة الصراع الدولى.. واجتياحها للأراضى الأوكرانية حالة غضب واستنكار فى المجتمع الدولى، وتغييرا جوهريا فى عودة أجواء الحرب الباردة بين القوى الكبرى فى النظام الدولى (الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبى). كما أثارت العديد من التساؤلات لماذا اجتاحت القوات الروسية الأراضى الأوكرانية؟ التساؤل المهم من هو فلاديمير بوتين؟.
هذا ما نقف عليه بجلاء عبر كتابين مهمين يرصدان ملمحين مهمين للرئيس الروسى بوتين أحدهما يرصد الملامح الإنسانية وتفاصيل من سيرته الذاتية وسيرة ومحطات صعوده للسلطة والثانى يعبر عن قناعاته ومرجعياته السياسية أما الكتاب الأول فهو بعنوان «القيصر الجديد.. بزوغ عهد فلاديمير بوتين» ويعد رصدا وتوثيقا للسيرة الذاتية لبوتين. كما يرصد رحلة صعوده حتى بلغ رأس السلطة.. كتبها ستيفن لى مايرز صحفى عمل كمراسل لصحيفة نيويورك تايمز لمدة ستة وعشرين عامًا، سبعة منها فى روسيا خلال فترة توطيد سلطة بوتين. وتعتبر هذه السيرة هى الوحيدة الكاملة باللغة الإنجليزية التى صدرت فى عام 2014.. والطبعة العربية الأولى 2018 ترجمة تيسير نظمى خليل، نشر وتوزيع العبيكان.
ومن الكتاب نعرف أن فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين مولود فى 7 أكتوبر 1952 فى لينينجراد، هو الطفل الثالث لفلاديمير سبيريدونوفيتش بوتين (1911- 1999) وماريا شيلوموفا (1911- 1998) شقيقاه هما أوليغ وفيكتور.. توفى أوليغ وهو رضيع، وتوفى فيكتور بسبب الدفتيريا أثناء حصار القوات الألمانية النازية على لينينغراد فى الحرب العالمية الثانية. كان سبيريدون بوتين طباخًا، حيث عمل لدى أرملة فلاديمير لينين ناديا كروبسكايا وستالين.. وقيل إنه طبخ مرة واحدة لجريجورى راسبوتين فى استوريا.
أما والده فخدم فى البحرية، أحد طواقم الغواصات فى البحرية فى أوائل الثلاثينيات من القرن الماضى.
أما والدته ماريا، كانت تنظر إلى ابنها على أنه معجزة.. وكدحت فى مختلف الأعمال البسيطة، وحين كان عمر فلاديمير سبعة أسابيع فقط حملته ماريا إلى كاتدرائية التجلى لتعميده سراً هناك. كان فلاديمير صبياً خشناً شجاعاً، إذ يبدو صغر حجمه تسبب له غالباً بالمضايقات، وفى عام 1960 بدأ فلاديمير الذهاب للمدرسة رقم 139 وكان فى سن الثامنة تقريباً، وكان طالباً غير مبال وفظاً ومتسرعاً وربما مفسداً قليلا. حتى إن فيرا جورفيتش معلمته أسمته الدوامة، لأنه يسير فى الصف ويدور فى حلقة مفرغة.. وكان ينزع إلى التسكع مع طلاب أثروا فيه سلبياً.. ولتهذيب سلوكه مارس السامبو على النمط السوفييتى، خليط من الجودو والمصارعة وكانت أكثر ملاءمة لصغر قامته وطبيعته المشاكسة. ويمكن القول إن فنون القتال غيرت حياته.
وفى عام 1965 كان بوتين قد بلغ سن السادسة عشر قد سحره فيلم فيلم ابيض واسود عن رواية الدرع والسيف،كان من الأفلام الأكثر شعبية،اذ قرر أن يصبح جاسوساً. ومن ثم كان الدافع الحقيقى لدراسة فى كلية الحقوق..لكى تتاح له فرصة الخدمة فى الى البيت الكبير «لجنة أمن الدولة » ( كى جى بى ) وبدأت مسيرته الاستخبارية وحقق حلمه بالانضمام لها فى 1975.. وصيف 1980 التقى ليودميلا شكربنيفا وتزوجا فى عام 1983.. وكان فى الثلاثين من عمره وهى الخامسة العشرين وأنجبا ابنته الأولى ماريا 1985 والثانية كاترين 1986. وفى الفترة من 1985 إلى 1990 عمل بوتين فى شبكة المخابرات السوفيتية فى درسدن بألمانيا الشرقية، ثم بعد ذلك عمل مساعدا لرئيس جامعة لينينجراد للشؤون الخارجية. ثم بدأ مسار بوتين السياسى فى أوائل التسعينيات..
أما الكتاب الثانى فهو «روسيا الأوراسية: زمن الرئيس فلاديمير بوتين» والذى يرصد انهيار الاتحاد السوفيتى، الذى يعد الكارثة الجيوسياسية الأكبر فى القرن العشرين، ولكن كيف أن هذا الانهيار ساهم فى تأسيس روسيا الجديدة (روسيا بوتين) بعلاقات سياسية جديدة مع دول العالم، والتطورات السياسية منذ تولى الرئيس بوتين الرئاسة عام 2000 حتى الآن. الكتاب تأليف الدكتور وسيم خليل قلعجية، وتقديم الكتاب بقلم وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف. الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون 2016 نجح المؤلف فى سبر أغوار الفترة الأخيرة من تاريخ روسيا القريب ودورها ومكانتها فى عالمنا المعاصر، السياسة التى انتهجها بوتين على امتداد فتره حكمه، يوضح وسيم خليل قلعجية فى مقدمته لكتابه: «إن وجود الرئيس فلاديمير بوتين فى موقع صانع القرار فى روسيا الاتحادية منذ توليه الحكم فى عام 2000 وطريقة إدراكه ورؤيته للصراع فى منطقة أوراسيا وللعلاقات الروسية الأمريكية خصوصاً وللعلاقة مع الغرب عموماً، ساهم فى التعامل بأسلوب مختلف مع الولايات المتحدة الأمريكية، بعدما ظهر أن الولايات المتحدة الأمريكية مازالت مصرة على التعامل بمنطق أنها المنتصرة فى الحرب الباردة وأن روسيا الاتحادية هى المنهزمة.. لن يقبل بوتين بأى حال من الأحوال أن يرضخ لمن يريد أن يمعن فى إذلال روسيا أو يبالغ فى إقصائها، لـ«بوتين» لا بل هو يسعى إلى حمل الولايات المتحدة الأمريكية على تغيير نظرتها الدونية إلى روسيا الاتحادية.
وانطلاقاً من كونه يعتبر أن المنطقة الأوراسية جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومى والمصالح الوطنية المركزية التى لا يمكن التهاون بها وفى سبيل الحفاظ على هذه المصالح يعمل الرئيس فلاديمير بوتين على انتهاج سياسة ثلاثية الأبعاد، البعد الأول يتمثل فى محاولة إقامة نظام إقليمى جديد يشكل بديلاً للاتحاد السوفيتى تحت مسمى «الاتحاد الأوراسى» وهو عبارة عن محاولة لإقامة نوع من التكامل الإقليمى فى منطقة أوراسيا بقيادة روسيا الاتحادية وعضوية مجموعة من الجمهوريات السابقة فى مواجهة الاتحاد الأوروبى، البعد الثانى هو مواجهة المساعى الأوروبية لتطويق روسيا الاتحادية واحتواؤها وذلك عن طريق اللجوء للتدخل العسكرى الصريح فى بعض الدول التى يحاول الغرب استقطابها وضمها للتحالف الغربى بشكل يساهم فى الإخلال بالتوازن بين روسيا الاتحادية والغرب وهو ما حدث فى جورجيا وأوكرانيا الآن. البعد الثالث يتمثل بالتوازن فى وجه الغرب خارج منطقة أوراسيا مثل الشرق الأوسط والشرق الأقصى، فى محاولة لزعزعة السيطرة الغربية على النظام الدولى وتخفيف قبضة الغرب وتحكمه فى إدارة الشؤون الدولية أى السعى إلى تحويل النظام الدولى إلى نظام متعدد الأقطاب.
الفصل الأول «روسيا الاتحادية فى عالم ما بعد الاتحاد السوفيتى» بدأ بمقولة للرئيس بوتين: «أكبر كارثة جيوسياسية حصلت فى القرن العشرين هى انهيار الاتحاد السوفيتى من لم يحزن على انهيارها، لا قلب له. ومن يريد إعادته بحلته السابقة لا عقل له. موضحاً الأجواء التى سادت فى روسيا إبان انهيار الاتحاد السوفيتى السابق وأدوارغورباتشوف ويلتسين فى تلك الفترة وبدايات التحول نحو «أوراسيا الجديدة».. وجاء الفصل الثانى «عودة روسيا إلى ساحة الصراع الدولى» وتكريس التحول فى السياسة الخارجية الروسية عبر ترجمة كاملة لخطابين ألقاهما بوتين يعتبرهما المؤلف مفصلين فى فهم منطلقات بوتين الفكرية والسياسية، الأول أمام «مؤتمر ميونيخ للسياسات الأمنية» العام 2007، عبر انتقاده الهيمنة الاحتكارية الأمريكية.. وجاء تكريس التحول فى السياسة الخارجية الروسية الثانية فى الساحة الحمراء فى موسكو فى العام ذاته بمناسبة الذكرى الثانية والستين للانتصار على النازية وفيه خاطب الرئيس بوتين القوات العسكرية الروسية مشيراً إلى أن الخطر الأمريكى يعادل الخطر النازى.
ويتناول الفصل الثالث «التوجه الروسى نحو آسيا الوسطى.. تكريس التحول نحو أوراسيا» الأهمية الاستراتيجية لمنطقة آسيا الوسطى سواء لروسيا وهنا يوضح الكاتب أهداف روسيا وأدواتها تجاه آسيا الوسطى.
أما الفصل الرابع «العقيدة العسكرية الجديدة.. تطوير السياسات الدفاعية لروسيا الاتحادية» فتصدره بمأثورة للقيصر الروسى ألكسندر الثالث: «ليس لروسيا ما تعتمد عليه سوى حليفين.. جيشها وأسطولها».
يتناول الفصل الخامس «الأوراسية مقابل الأطلسية» المستقبل الذى يولد اليوم كما يقول بوتين.. لروسيا مسلماتها التى تندرج فيما يسمى «المحيط المباشر» والذى يشكل عماد كيان الأمن القومى الروسى، ويتمثل هذا المحيط المباشر لروسيا الاتحادية اليوم بعد تفكك الاتحاد السوفيتى فى الخط الممتد من جورجيا وأوكرانيا مروراً بتشيكيا وبولندا وحتى حدود دولة البلطيق. يتطرق وسيم خليل إلى أهمية أوكرانيا الاستراتيجية فى أوراسيا وهى بمثابة الجدار الفاصل بين روسيا والاتحاد الأوروبى..
وهنا فى الفصل السادس يشرح قلعجية محاولات الرئيس الروسى رسم ملامح النظام العالمى الجديد بالتكتلات الإقليمية والتحالفات الدولية حيث سعى فلاديمير بوتين إلى إعادة تأثير روسيا الاتحادية وممارسة نفوذها السياسى والعسكرى واستعادة حضورها العالمى والتأثير على مجريات السياسة الدولية.. من خلال دمجها فى تنظيمات إقليمية وعالمية قوية تسهم فى منحها ثقلا إضافيا ضخماً تجسده قيادتها لمنظومتين دوليتين كبيرتين الأولى منظمة البريكس والثانية منظمة شنغهاى للتعاون.
«الحرب ضد روسيا الأوراسية» بدأ الفصل السابع تعرض فيه لإنشاء منظمة «غوام»1997 التى تضم أوكرانيا وجورجيا وأذربيجان ومولدوفيا موضحاً المعاكسة الغربية على التوجه نحو أوراسيا الجديدة، والصراع على أوكرانيا بين روسيا والغرب، ومحللاً تسلسل الأحداث الصراعية فى أوكرانيا بداية من قمة فيلنوس لمشروع الشراكة الشرقية وبداية الصراع على أوكرانيا فى 2013.. وكيف حاولت روسيا إعدام هذا المشروع مع الاتحاد الأوروبى وتصاعد حدة الأزمة السياسية الأوكرانية.. وحتى أصبحت الأزمة الأوكرانية بين المطرقة الأمريكية والسندان الروسى.. واستكمالا لسيناريو أزمة شبه جزبرة القرم التى نتج عنها استفتاء القرم 2014 يأتى استفتاء إقليمى دونيتسك ولوغانسك ضمن هذا السياق الذى نتج عنه جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية واستقلالهما عن أوكرانيا.. وقوبل هذا الاستفتاء بالتنديد الشديد من قبل أوكرانيا والاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة الأمريكية. وبعد أشهر من الجهود الدبلوماسية غير المثمرة جاء اتفاق «مينسك -1» 2014 الذى نصت على وقف الهجمات بين السلطات الأوكرانية والانفصاليين إلى جانب تبادل الأسرى وفتح ممرات إنسانية للاجئين وتجددت الاشتباكات والهجمات العسكرية وجاء اتفاق مينسك- 2 الذى يعد المخرج السلمى للأزمة الأوكرانية 2015 وأصبح كل اللاعبين فى الأزمة الأوكرانية يقفون الآن على مفترق طرق والمسألة الجوهرية التى تختفى خلف تفاصيل الاتفاق الذى تكمن فيه الشياطين أن ما تريده روسيا الاتحادية حالا هو تحويل أوكرانيا إلى دولة فيدرالية هو ضمان روسيا منع دخول أوكرانيا للاتحاد الأوروبى، والأكثر أهمية هو منع الانضمام إلى حلف شمال الأطلسى وهو الأمر المرفوض غربياً. لقد أفضحت الأزمة الراهنة فى أوكرانيا عن طبيعة المعضلات الجيوسياسية المستجدة فى عصر ما بعد الحرب الباردة.
تعليقات