محمود درويش..سليم بركات وفراشات الضوء المنتحرة
محمود درويش... سليم بركات وفراشات الضوء المنتحرة
* تيسير نظمي
الخميس
22/7/2004م
كلما سطع الضوء كثرت حوله الفراشات المنتحرة، تنطبق هذه الصورة على كثير من الدراسات التي لا تنطوي على فهم بمدى اتساع الرؤيا أو توغل الشعور وبالتالي عمق الشاعرية لدى الشاعر موضوع الدراسة وجاذب الدارسين المشدودين حتماً ليس إلى أقل من محمود درويش شاعرية عمقاً وتوهجاً . ورأفة بالفراشات المنتحرة برغبة النقد أو الدراسة أو الشهرة كانت هذه المقالة.
منذ أكثر من السنوات التي تعد عمراً، أي منذ رنوت إلى وطن بات مفقوداً ويتوجب تثبيته والسيطرة عليه جمالياً سواء في اللوحة أم في القصة أم بالقصيدة تفهمت مبكراً (1967) معنى أن يرنو من هم في الوطن أساساً إلى أفق (إلى حرية وانتماء) يأتيهم من خارج وطن محتل مصادر ومنقوص، مما جعل توفيق زياد الشاعر يكتب: أشد على أياديكم (أناديكم) وما جعل محمود درويش يكتب( سجل أنا عربي) فقد تفتقت شاعرية الاثنين (وبحكم ذواتهم الاجتماعية والسياسية واندغام ذواتهم الإبداعية بالذات الجمعية لأمة) في المسافة بين الواقع والمأمول، بين الحقيقة والمتخيل، رغم أن حزب راكاح يتبنى النظرية المادية الجدلية في حين يكتب راشد حسين آنذاك( أنا الأرض لا تحرميني المطر) ولذلك لم يحظ الأخير بأية نبرة ساخرة من كهل فلسطين الساخر إميل حبيبي مثلما كان الأخير يسخر من زيتونة توفيق زياد في ساحة الدار ومن بطيخة محمود درويش السياسية لدى احتلاله لموقع سياسي في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، راشد حسين كان أكثرهم واقعية وأكثرهم عمقاً وأقلهم إنتاجاً، فقد خرج محمود درويش من بيت الأم الكبرى إلى البيت(المؤقت) ومن الإقامة الجبرية إلى (الأفق) الذي أشك أن أميل توما قد حدده آنذاك عندما التقاه شاباً في ريعان الصبا في وادي النسناس وقال له تلك العبارة الشهيرة( اذهب وابحث لك عن أفق) ومنذ البدء كانت الفراشات آنذاك في أمس الوقت لمشاهدة الضوء لعلها تكفر عن عجزها أن تكون اليد التي طالب توفيق زياد منادياً بالشد عليها وبالأرض التي يبوسها من تحت نعالهم ويقول يفديهم، فراح نقاد العرب يضخمون من شعراء المقاومة، الذين تم اكتشافهم فجأة بعد هزيمة عام 1967 وانتبه درويش مبكراً لهذه المسألة عندما قال بكل لياقة وأدب: (ارحمونا من هذا النقد القاسي) فعندما نضخم من الحقائق الموضوعية لنوصلها إلى حدودها الأسطورية ننتظر فعلاً يتم إنجازه منهم خارقاً يغطي على عجزنا أن نكون اليد، وبالتالي ومع عدم إنجاز الحلم - ونادراً ما سمعنا في الشعر تحديداً عن إنجاز الحلم - نلقي باللائمة على من رفعناهم لمستوى الأسطورة، وبالمثل يمكن القول عن تجربة محمود درويش تحديداً الذي وصل بتجربة شعبه وتجربة لبنان وغزو بيروت عام 1982 إلى مستوى التوهج الذي أشاعته قصيدة (مديح الظل العالي) ولتنتهي فيما بعد عناوينه نحو، وعلى التوالي:(لماذا تركت الحصان وحيداً) و(سرير الغريبة) وأخيراً( لا تعتذر عما فعلت) ويبدو كما هو من الطبيعي وقد تعذر تحقيق معجزة ومستحيل الانتصار وتكريس قيم الحرية والعدالة أنه لم يعد أمام الذات المبدعة إلا أن تبحث عن أفقها ومداها في ما هو أكثر ذاتية وشخصية في عمقها الوجودي والإنساني ما دامت باتت غير قادرة على إنجاز هذا الحلم للجموع، للشعب ، وللوطن ، أو للأمة.
ربما لم يكن الخراب بوضوح اليوم عندما كتب محمود درويش ملحمته الشعرية (مديح الظل العالي) فقد وجد آنذاك الرجال من حوله الذين كانوا يقطنون في تيبيت العرب في سماء المنطقة وكان ظلهم عالياً لذلك كانت الفكرة كبيرة والدولة صغيرة والثورة واسعة(ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة، ما أوسع الثورة) وإذ يجد محمود درويش نفسه بعد تجربة بيروت(ملهمته) في باريس أو عمان أو أي منفى آخر أو رام الله المحتلة، فإن المسافة التي قطعها بين الواقع والحلم أنجزها شعرياً في ما كتبه وأصدره وثمة مسافة تأملية وجودية بات عليه لزاماً الانشغال بقطعها لعلها تفضي إلى المستحيل فنياً .
التقينا محمود درويش في الكويت قبل الغزو الإسرائيلي لبيروت صيف عام 1982 وأظنه كان أسبوعاً ثقافياً فلسطينياً وخلاله وكان هاجس درويش يومذاك هو النثر والرواية ومجازاً أقول وأرجو أن أكون دقيقاً (الكوميديا الإلهية) الفلسطينية حتى لا أقول الكانتربري تيلز للإنجليزي تشوسر، كان لدى محمود درويش مشروعه الجمالي والفني والوطني، وربما لا يزال هذا هو ذات المشروع الجمالي الوجودي الإنساني لكنه اختزل عموميته وشموليته بما هو أكثر إنسانية وأكثر عمقاً. لقد اكتشفه في البسيط والعادي منذ أن تغنى بقهوة الأم وهل هنالك ما هو أكثر بساطة ليعيد لنا في مثيله أو صديقه أو ربما تلميذه المعجزة سليم بركات ما يعوضه عن هاجس النثر المستحيل الذي يميز سليم بركات ككائن ربما قبل الشاعر والناثر فيه وما يعوضهما الاثنين معاً عن خسارات متوازية، الكردي للريح، والفلسطيني للعاصفة، أو العكس إن شاء القارئ، فالمهم أن درويش أجرى تعديلات على المسافات بعد أن كان يعد بتعديلات على الخرائط. المسافة بينه وبين الأفق الأول باتت في حكم المتلاشية أو المنتهكة شعرياً فلم يبق سوى المسافة بينه وبين بيت الأم المفتقد، وهكذا حال سليم بركات – المدير التنفيذي لمجلة الكرمل التي يرأس تحريرها درويش- مع البيت المستأجر الذي لا يملكه، بالطبع يقال أن لدرويش منزل في مدينة عمان لا أعلم مدى الدقة في ما يقال- لكن المتوازيات في الأقرب إنسانياً ووجودياً وفنياً دون توقف الفراشات جعلت درويش لا يكرر النجوى والحلم الساذج بالبعيد الذي بات قريباً متهتكاً مفضوحاً خاوياً من أية طاقة جمالية وشعرية، بل بالقريب الشخصي والحميم القريب من الذات والوطن في آن واحد، وليس صحيحاً ما يخالج بعض فراشات الضوء من أن المسألة فيها تناص أو تلاص! يرقى إلى السرقة! بينه وبين سليم بركات. بل أن التأكيد على وجود هذه الطاقة الشعورية والإنسانية والشعرية بينهما إنما هو دليل صحة فكر وعافية فلكل منهما على أية حال ما يميزه ويحفظ تخومه. لكنه الإحساس بالآخر القريب قبل الادعاء بفهم الآخر البعيد هو ما يلقي بظلاله على تجارب شاعرين تلازما في الحياة وفي المسكن وفي العمل على الأقل أكثر من عقد من الزمان.
لكن ، هل لفراشات الضوء أن تكف عن الانتحار النقدي؟ أشك في ذلك ، خاصة بعد أن قرأت لأحدهم ما كتبه كمرافعة عن درويش بعد أن تهيأ له أن محمود درويش بات في قفص الاتهام، لدى قراءته للعدد 33 من مجلة الكرمل التي كانت تسمى مجلة( الكاتب الفلسطيني) وحال استلام درويش لها (نعرف وقد كتبنا ونوهنا آنذاك ) حولها إلى آفاقه الرحبة ووسمها بشعره وفكره وشعوره وخياراته، التقط الثروة اللغوية والشاعرية المغايرة لدى سليم بركات في شخص سليم بركات وترك له مهمة مدير تحريرها، والأخير التقط الإشارة وكان ما كان، فالدهاء والتميز والشاعرية ليست بجديدة على محمود درويش خاصة في شراسته التي باتت مفتقدة اليوم في الدفاع عن الذاتي والجوهري وحق التميز، لكنه يظل منحازاً لما هو أبعد من السيرة الذاتية ومن المنصب السياسي أو كرسي عرش الشعر وهذا هو المأمول والمرتجى.
تعليقات