ضربة شمس – قصة تيسير نظمي
لأيام
بقيت مترددا في الخروج في جولة استطلاعية بعد وصولي من سفر طويل غبت به عن ذلك
الحي من أحياء العاصمة أكثر من عشرين عاما. كان الطقس شتائيا وما هو بشتاء؛ غيوم
تحجب الشمس غير ممطرة. وكآبة عامة تجتاح الحي ومعه العاصمة أيضاً. قلتُ لنفسي :
"ليس هذا ما عهدته في ذلك الحي منذ غادرته، فقد تغير فيه الطقس والناس
والمحلات." وبقيت غير متأكد من هذا الإنطباع العام الذي خطر بفكري للوهلة
الأولى. ولما طال انتظار الشمس أو المطر شرعت في جولة قصيرة أستطلع البنايات
والأمكنة. البناية التي كان في طابقها الأرضي مكتب البريد وفي طابقها الثاني مكتب
الحزب قبل 21 عاما باتت مطفأة الأنوار وغير مأهولة. لا يوجد بها مكتب بريد الآن.
المارة رغم قلتهم يقتنون كلاباً صغيرة في الغالب بيضاء وليس لها عواء. القطط أيضا
رغم كثرتها ليس لها مواء. والناس رغم ندرتهم ليس لهم أي جلبة أو ضجيج وكأنهم في
حداد عام على لاشيء. لذلك أنهيت جولتي القصيرة بسرعة بعد أن تزودت بكروز سجائر قد
يكفيني مدة أسبوع.
في اليوم التالي، وعلى حين غرة اختفت الغيوم
التي لم تقل شيئا ولم تعد بشيء. أعددت نفسي لجولة أطول من السابقة ، رغم أنني كنت
حتى قبل أن أغادر البيت أسمع زعيق سيارات الإسعاف وأجراس الكنائس تدق وتدق.
كان مشهد الأبنية تحت ضوء الشمس ناصعا وجميل
الوضوح. لكن عدد المارة من الناس أيضا قليل، بل ونادر. توقفت عند مطعم صغير قديم ،
ربما قدم الحي نفسه وما يزال فقيرا على ما يبدو لأنني كنت الزبون الوحيد الذي
يرتاده في صبيحة يوم مشمس. طلبت كوباً من القهوة ولذت بالصمت ليتواصل زعيق سيارات
الإسعاف و رنين أجراس الكنائس. " لقد تغير كثيرا هذا الحي الذي كان ضاجاً
بالحياة قبل ربع قرن" ، قلت لنفسي وأنا أنتظر القهوة مستمتعا بضوء الشمس ولون
السماء الصافي الزرقة دونما شائبة بيضاء من هنا أو هناك.
رن هاتفي النقال بوصول رسالة نصية مفادها أن
الطقس معتدل ومستقر اليوم. لم تقل الرسالة النصية شيئا عن اليوم مساءا أو عن يوم
الغد. بل لم تقل الرسالة أن اليوم مشمس على غير العادة.واصلت من بعدها سيارات
الإسعاف زعيقها مارة واحدة منها من الشارع المقابل للطاولة التي أجلس إليها
بانتظار القهوة. أجراس الكنيسة المجاورة دقت العديد من الدقات ثم لاذت بصمت غامض
ومريب. جاء الفتى بالقهوة ووضعها أمامي مع منفضتين للسجائر واحدة لي والثانية له.
جلس قبالتي وشرع يدخن صامتا هو الآخر. تناولت علبة سجائري وأشعلت منها سيجارة والقهوة
ما تزال تنفث لهيبها فوق كوب ساخن ينتظرني بنزق أن أرشف منه الرشفة الأولى. مرت
فتاة تصطحب جرواً أبيض اللون صغير الحجم. تأملت البناية حيث كان مقر حزبنا الذي لم
يحصل على ترخيص آنذاك من وزارة الداخلية أسوة ببقية الأحزاب المرخصة. لا وجود لعلم
الدولة في الطابق السفلي من المبنى حيث كان مقر البريد. قليل من السيارات تمر في
الشارع وما بين كل سيارة إسعاف والأخرى بالكاد تمر ثلاث سيارات.
"يا له من يوم استثنائي هذا اليوم
المشمس" قلت لنفسي وأنا أرشف الرشفة الأولى من كوب القهوة أمامي قرب منفضة
السجائر. كنت قد وصلت إلى حد الضجر من نشرات الأخبار المتكررة وفي معظم الأحيان
المعادة والتي لا شغل لها يشغلها عن بقية أخبار الكرة الأرضية سوى فيروس كورونا.
"فهل يعقل أن يكون الناس هنا أيضا منشغلين في رعب أو هلع بتلك الأخبار وقد
اعتكفوا جميعاً في بيوتهم خشية الإصابة ؟ " تساءلت بيني وبين نفسي. مع ذلك
رشفت رشفة أخرى أظنها الثانية أو الثالثة من كوب القهوة أمامي دون أية عطسة أو قحة
وبتنفس سلس اعتيادي وبحرارة أيضا اعتيادية لا جديد فيها.
مذاق القهوة لاذع بعض الشيء لكنه مقبول. في
نفس المطعم قبل نحو عشرين سنة كان مذاق القهوة أطيب وطريقة صنعها لم تكن على عجل.
تجنبت سؤال الفتى عن صاحب المطعم كي لا أعكر مزاجه. بل تجنبت إثارة أي حديث معه
لاختلاف في العمر؛ فهو شاب في ريعان الصبى وأنا كهل معمر بعض الشيء. جل اهتماماتي
سياسية وفكرية وهو من جيل مختلف الإهتمامات بالطبع لن يعنيه اجتماع مجلس الأمن
الطارئ اليوم لبحث وقف اطلاق النار في إدلب. أو المهلة التركية التي تنتهي غداً.
كما قد لا تعنيه الانتخابات الإسرائيلية كثيرا في مطلع الشهر المقبل. ولا صفقة
القرن لترمب. بقيت أتأمل الشمس التي تضيء المباني وتغسلها غسلاً من الكآبة التي
حلت بها وتخللت حجارتها وربما اسمنتها الصلد. بدأت أجراس الكنيسة تدق. ومرت سيارة
إسعاف دون زعيق هذه المرة عبر الشارع. ربما دخن الشاب أكثر من سيجارة قبل أن ينهض
ويتفقد أواني الحمص وصاج الفلافل وسخونة قدرة الفول الكبيرة. لا أحد دخل المطعم
ليشتري أي شيء. حتى أنا فقدت شهيتي للطعام. مستمتعا بنهار مشمس حتى رنت رسالة نصية
في هاتفي مفادها أن بعد غد تحذر الأرصاد الجوية من ارتفاع منسوب السيول وتحذر منه
داعية المواطنين وأنا منهم بالطبع لتوخي الحيطة والحذر. قلت لنفسي: " لعلني
أثقلت على الفتى بجلوسي الطويل لديه من أجل كوب من القهوة، فلا بد من دفع الحساب
والانصراف لاستكمال جولتي في أرجاء ما تغير وتبدل في الحي لعلني أتذكر ما يساعدني
في تغيير مزاجي أو ما يبهجني غير الشمس" فنقدته ثمن القهوة وغادرت لا ألوي
على شيء.
أسلمت
نفسي لشارع السرفيس المؤدي لمبنى مكاتب البحث الجنائي في البلد إلى أن ساقتني
قدماي لمركز اللغات المزدحم بالأجانب الذين يودون تعلم اللغة العربية وبالمواطنين
من أهل البلد الراغبين بتعلم اللغات الأجنبية. كانت الشمس تميل إلى الغروب وقد
وهنت قواها وبدت مندحرة عليلة. سيارات تكسي السرفيس هي الأخرى كانت في شبه إجازة
ولم أصادف أية واحدة منها تقلني بالاتجاه المعاكس للطريق الذي ساقتني إليه قدماي
بحذاء ضيق إلى حد ما. استدرت لأعود من حيث أتيت. وفي طريق العودة لمحت مقاه لا تعد
ولا تحصى لم تكن موجودة قبل عشرين سنة. ويبدو من ديكوراتها الباذخة أنها غالية
الثمن معدة للسواح الأجانب. بدأت أشعر بالبرد وفي نفس الوقت بما يشبه ضربة شمس
نسيتني في الصيف المنصرم وتذكرتني هي من تلقاء نفسها في مطلع ربيع قد يطول
انتظاره. وعندما وصلت لذات المقهى الذي احتسيت به قهوتي لمحت تلك الفتاة التي مرت
بصحبة جروها الأبيض جالسة على نفس الكرسي الذي كنت جالسا عليه وقبالتها جروها
الأبيض جالس أيضا وأمام كل منهما كوب من القهوة.
29-2-2020
في مكان
ما
تعليقات