فرق التوقيت – قصة تيسير نظمي

الكاتبان أسعد العزوني و تيسير نظمي فوق سطح المقر الجديد لرابطة الكتاب 


1-
كثيرة القصص التي لا نود كتابتها؛ ومنها هذه القصة عن عجوز بخيل رغم ما رزقه الله من مال وبنين إلا أنه قلما أسعد أبناءه بماله فانتظروا صابرين أن يتوفاه الله إلى رحمته وعليائه فيقتسمون بعد طول شقاء أمواله لعلهم يسددون ما ألحقه بهم من ديون .
     كنت أعرف بعضهم ، وتصلني أخبار أبيهم بين الحين والآخر. كانت أخبار لا تسر القلب عموما ولكنها أخبار عن محاكم ودعاوى نفقة ومشكلات مع جيران الأب العجوز أو مع المستأجرين لما امتلكه من عقار. وقبل سنوات سمعت من إبنه الأكبر أن الختيار مريض فشرع الإبن الأكبر يتوسل أشقائه أن يتدبروا معه تكاليف العلاج لأبيهم وأن يتعاونوا معه في توزيع المسؤوليات كل حسب طاقته وقدرته النسبية في المساهمة برفع الحمل الملقى على كاهل كبيرهم ، وهذا بالطبع ما لم يحدث إلا يوم الجنازة. فقد دبت بهم الروح والمعنويات العالية يوم رفعوه على أكتافهم ، لا في مظاهرة لا سمح الله ولا في مسيرة احتجاج بل في وداعه الأخير إلى المقبرة بعد أن مكث لأيام في المشفى الخاص في غيبوبات متصلة الواحدة تتلو الأخرى بحيث ترتب عليهم مبلغ وقدره .
     وكما بلغني من ناقل الخبر على الهاتف أن أبناءه خالد وجميل وصابر وعبدالرحمن وقاسم وعبد الصمد وما لا أحفظ من أسماء أرسلوه للخارج للعلاج بناء على توصيات الأطباء في الشهور الأخيرة من حياته وقد تجاوز التسعين. ولم أدقق من ناقل الخبر في اسم تلك الدولة شرقية كانت أم غربية فكل ما في الأمر فارق في التوقيت لن يؤثر إلا على مواعيد الصلاة إذا كان الختيار يصلي لكنه لن يؤثر على صلاة الجنازة بكل تأكيد. تحاملت على نفسي وقلت لابد من أداء واجب العزاء والسير في الجنازة ومرافقة الفاقدين في لحظة الدفن الأخيرة.و هذا ما حدث فعلا حيث شاهدت في المقبرة من لم أشاهدهم منذ سنوات طويلة وقد فعل بهم الزمن ما فعل من مشيب في الشعر إلى صلع إلى تجاعيد في الملامح إلى عكازات في المشي إلى لثغات في النطق إلى هرم في الذاكرة إلى تغيير في الملبس إلى ما إلى من استحقاقات وداع الدنيا.بعض الحضور تذكرتهم والبعض الآخر لم أتذكره بل نسيت اسمه رغم نطقه به لحظة سألته : وكيف الأحوال إن شاء الله ماشية !
     وهكذا إلى أن أنزلوا الجثة إلى القبر ليتلقفها أبناؤه في الأسفل فيوصي كبيرهم أخاه الأصغر أن يشق الكفن الأبيض عن وجه الختيار قليلا.
2-
في هكذا تشييع، كنت ستلمس بعينيك الكلمات القليلة الممكن سماعها دون أن تسمعها علانية ؛ أراح واستراح ، الدائم الله ، كلنا لها ، كان الله في عون أولاده وأحفاده وأبناء أحفاده ، عاش النكبات كلها ، مكافح حتى اللحظات الأخيرة.
وبصوت أكثر خفوتا ؛ شعتله الأطباء دون أن يعرفوا سببا لمرضه، المستشفى رفض تسليمه لأولاده قبل تسديد كافة المبالغ المستحقة ، الطبيب الذي حرر شهادة الوفاة مشكوك في أمره ، كان لا يجب رفع الأجهزة عنه ، أولاده تعبوا ، وبعضهم جاء من ال 48 وآخرون جاؤوا من ال 67 والباقون جاؤوا من المهجر. أما البقية منهم فقد قضوا شهداء في عليين. وما كان يمكنك في هكذا تشييع أن تسمع سنة محددة لتاريخ ميلاده ؛ فالبعض يظن أنه شهد الحرب العالمية الأولى والبعض الآخر يقول أنه شارك في ثورة البراق وآخرون يجزمون بأنه كان أحد الناجين القلائل من ثورة القسام ورفاقه المجاهدين، ويذهب آخرون إلى أن شقيقا له حارب مع الأتراك ولم يسمع عنه شيئا إن كان حيا أو ميتا حتى اليوم. وهكذا لن تسمع في هكذا تشييع حكاية واحدة متفق عليها فكل له حكايته والكل له ذكرياته وستظل الحقيقة أكثر من حقيقة ولكل واقعة عشرات التأويلات والتفاصيل والأسباب. فكيف إذا تدخل الأمن واستدعي الطب الشرعي وغير الشرعي لبحث الأمر ، أي أمر إلا ما حدث حقيقة عندما لبى الأصغر طلبا للأكبر بأن يشق الكفن عن وجه أبيه قبل وضع الطابوق وهيل التراب على الفقيد !
3-
     هرع حارس المقبرة فوراً حاملاً هاتفه النقال إلى مكان الجلبة والهرج والمرج الذي ساد بين المشيعين للفقيد التسعيني و هو لايكف عن التحدث مع الطرف الآخر على هاتفه والذي تبين أنه طرف أمني دللت عليه سيارات النجدة والإسعاف التي هرعت إلى المكان بعد قليل من واقعة الكشف عن وجه الفقيد الأمر الذي جعل المشيعين في حرج من أمرهم ولما يهال التراب بعد على الفقيد.
في تلك اللحظات بدأت أسمع جملا متقطعة وهمسا ولمزا مفاده أن الفقيد عاد إلى الحياة فجأة متسائلا من إبنه الأصغر عندما كشف عن وجهه: "شو بتسوي هون ؟ "  فغاب الإبن عن الوعي تماما مرتميا على وجه أبيه جاحظ العينين ومادا يده لا نعرف إن كان ذلك للوداع أم للتهنئة أم للتعزية !
    ومع وجود رجال الأمن بزيهم الرسمي أم غير الرسمي تلاشى اللغط ولاذ الحضور بالصمت المطبق وهم يهرولون مغادرين المقبرة لا يعرفون أي معنى بعد لحضورهم الذي لم ينته إلى أي عزاء أو أية فرحة وإنما بغموض ما بعده غموض سرعان ما سوف يتحول في بيوتهم إلى اجتهادات لها أول وليس لها آخر. لكن حارس المقبرة هو الوحيد من بين كل المغادرين الذي كان متأكداً تماما من أن الجثة لم تعد موجودة داخل قبر فاغرا فاه لأية جثة مقبلة و في قعره ساعة مستديرة بيضاء  تشير إلى الثالثة والنصف تماماً بينما تشير ساعة الهاتف النقال بيد الحارس إلى الرابعة والنصف تماماً.
22-2-2020
اللويبدة- عمان قرب دائرة الأراضي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البرنامج "الثقافي والوطني " للتيارات المؤتلفة في رابطة الكتاب الأردنيين والانتخابات 27 نيسان

نيويورك تايمز: بوتين من الانزلاق من رجل دولة إلى طاغية !

بيان صادر عن ملتقى الهيئات الثقافية الأردنية وشخصيات وطنية حول الأونروا