سمير أمين: لا أنتظر خيراً من «مرسى»
«صباحى» كان الأمل الوحيد لكن واشنطن تلاعبت فى نتائج الانتخابات وأطاحت به فى الجولة الأولى
حين قررت الاتصال بالمفكر الاقتصادى البارز الدكتور سمير أمين فى بيته بالعاصمة الفرنسية باريس، لم يكن لى هدف سوى الحصول على «روشتة» لعلاج اقتصادنا المريض.. لكن «أمين» أصر على أنه لا أهمية لأى روشتة دون فهم أسباب «المرض الثلاثى» الذى يُطبق على أنفاسنا منذ هزيمة «مشروع عبدالناصر» فى عام 1967: التبعية الكاملة للأمريكان، والخضوع لمنطق السوق الحرة، وصعود تيار الإسلام السياسى الذى تموله دول الخليج. أمين الذى قضى عشرات السنوات من عمره المديد يسبح ضد التيار، باعتباره يساريا حتى النخاع فى عالم تحكمه قيم أمريكا الرأسمالية، يرى أن الأمريكان وإسرائيل والخليج والإسلاميين يتآمرون علينا، ولا أمل فى الخروج من دوامة الفقر والبطالة والمرض إلا بالخروج من دوائرهم الشيطانية، وبناء علاقات جديدة خصوصا مع الصين والهند، والتنبه لخطر الإخوان و«إسلامهم» الذى يقول «أمين» إنه صنع فى «إنجلترا» على أيدى مستشرقين إنجليز ومرروه لـ«أبى الأعلى المودودى»، ومنه لباقى العالم الإسلامى.
المفكر الاقتصادى يؤكد أنه لا ينتظر خيرا من الرئيس الجديد لأنه ينتمى لجماعة شاركت فى تخلف مصر اقتصاديا، ويعتقد أن حمدين صباحى كان الأمل الوحيد فى مواجهة سيطرة رؤوس أموال الخليج، وتحدى الخضوع الكامل لأهداف السياسة الأمريكية. ومع ذلك فهو متفائل أن الشعب بات نابضا بالحياة وشبابه قادر على إنقاذ مصر من الإسلاميين ومن يدعمونهم.
* ما الروشتة التى يمكن أن تقدمها للرئيس محمد مرسى حتى يخرج بالاقتصاد من كبوته؟
- تقديم روشتة يقتضى تشخيص وفهم أسباب مشكلاتنا أولا حتى نعرف حلها، وحتى نفهم المشكلة لا بد من العودة نحو 60 عاما للوراء عندما جاء جمال عبدالناصر وبدأ مشروعه الوطنى الذى كان يهدف إلى تحقيق تنمية حقيقية، واتخذ خطوات جادة فى هذا الاتجاه مثل قرارات الإصلاح الزراعى وبناء القطاع العام والدخول فى مرحلة التصنيع. هذا المشروع اصطدم بمصالح أعدائنا الثلاثة أمريكا وإسرائيل والخليج فسعوا لمحاربته، وفقد مشروع «ناصر» زخمه بعد نحو 15 سنة من بدايته لأسباب منها الضغوط الخارجية التى حركت إسرائيل ضده مرتين فى عامى 1956 و1967، وبدأ عبدالناصر فى تقديم تنازلات للقوى الاستعمارية، فالانفتاح الاقتصادى بدأ فى عهده بعد هزيمة 67 وانتفاضة الطلاب فى عام 1968، ثم فاجأه الموت فى عام 1970. ولا ندرى هل كان من الممكن أن يقدم عبدالناصر تنازلات أكثر لو امتد به العمر، أنا شخصيا أظن أنه لم يكن ليفعل ذلك. على العموم عبدالناصر -بكل تناقضاته- يمثل خطوة أو اثنتين فى الاتجاه المطلوب لا أكثر.
* وما أهم مآخذك على عصر عبدالناصر؟
- عبدالناصر حقق مكاسب اجتماعية جزئية للطبقات الشعبية، ولكنه أمم السياسة، وضرب الليبراليين واليساريين فى آن واحد، مما ساعد على صعود الإسلام السياسى. الحقيقة أن غياب الديمقراطية كان أخطر عيوب التجربة الناصرية. لكن المأساة الحقيقة كانت فى خليفته، فقد تنازل السادات مرة واحدة وبشكل كلى عن مشروع عبدالناصر، وقطع شوطا كبيرا فى إرضاء الولايات المتحدة وحلفائها، إيمانا منه أن 99% من أوراق حل قضايا المنطقة فى يدها. على هذا الأساس عقد اتفاقية الصلح مع إسرائيل، وأعاد «الإخوان المسلمين» الذين كانوا لاجئين فى الخليج لأنهم كانوا يعارضون مشروع عبدالناصر الوطنى. واستمرت سياسة السادات فى عهد مبارك الذى لم يكن لديه أى مشروع على الإطلاق وترك لرؤوس الأموال الخاصة وتلك القادمة من الخليج وأمريكا عبء تنمية البلد، مما خلق تدهورا اقتصاديا كبيرا وبطالة وتفاوتا اجتماعيا وتراجعا مخجلا فى التعليم والصحة والدور الإقليمى لمصر، فضلا عن تغول إسرائيل والتهامها لمزيد من الأراضى العربية. هذه هى الأوضاع التى كنا وما زلنا نعيش فيها.
* لماذا ربطت بين تدفق أموال الخليج والأمريكان وتدهور أوضاعنا الاقتصادية؟
- لأن هذه الأموال لم تتدفق لتحقيق تنمية فى مصر، لأن نهضتها تهدد نفوذ دول الخليج القائم على نشر الإسلام السياسى، وسيطرة الولايات المتحدة المبنية على بقاء مصر دولة فقيرة وتابعة، ومصالح إسرائيل القائمة على عجز مصر عن مواجهة التوسع الصهيونى. لذلك اتجهت هذه الأموال -التى دخل جزء كبير منها عن طريق أعضاء جماعة الإخوان وثيقى الصلة والارتباط بالأسر الحاكمة فى الخليج- فى مشروعات وأنشطة طفيلية مثل السياحة وأنشطة الوساطة والسمسرة. هذه الأنشطة غير قادرة بطبيعتها على تحقيق التنمية الحقيقية التى تقوم على الزراعة والصناعة، وإنما تحقق ما أسميه بـ(lumpen development) وهو ما يمكن ترجمته بـ«التنمية القمامة أو الوضيعة»، هذا النوع من التنمية هو ما ينشط فيه الإخوان والسلفيون الذين تمر أموال الخليج عبر أياديهم، لاحظ أن الخليج يحاربنا بسلاحين؛ و هما المال والإسلام (ليس كعقيدة ولكن كتيار سياسى)، فأموالهم تدعم «الإسلامجية» الذين يتخذون من الدين وسيلة للتكسب مثل معظم التيارات الدينية وليس الإخوان وحدهم.
* لكن هل يدرك «الإخوان» هذه النوايا الشيطانية؟
- الإخوان يدركون ذلك. طبعا أنا لا أتحدث عن الأعداد الكثيرة ممن يؤمنون عن سلامة نية بأفكار الإخوان، ولا حتى عن شعوب الخليج، أنا أتحدث عن قيادات الإخوان وزعماء الخليج. قيادات الإخوان -رغم أنها غبية جدا- تدرك أن أهداف أموال الخليج لا تأتى للتنمية، بل لإبقاء مصر ضعيفة ومتخلفة. والإخوان أنفسهم يعيشون على الفقر، فالفقر أعطى فرصة لصعود تيار الإسلام السياسى. ثم إن الإخوان متحالفون تماما مع الطبقة الرأسمالية، واسألهم عن موقفهم من النقابات العمالية ستجدهم ضدها على طول الخط، وضد حقوق صغار الفلاحين. هذا تاريخ طويل يعرفه الجميع.

* هل لديك معلومات عن مصادر تمويل الإخوان؟
- ليس لدى معلومات تفصيلية، لكن الجميع يعرف المليارات التى أمدتهم بها دول الخليج والبنوك الإسلامية.
* من المفهوم أن تهدد أى صحوة فى مصر مصالح أمريكا وأطماع إسرائيل، لكن كيف يمكن أن تهدد مصالح دول الخليج؟
- دول الخليج لا وزن لها، وهم يكتسبون نفوذهم الحالى من غياب مصر والدول العربية الأخرى الفاعلة فى المنطقة مثل العراق وسوريا. وزعماء هذه الدول يدركون هذه الحقيقة لذلك شاركوا فى تفتيت العراق ويتآمرون الآن على سوريا، وهم دائما شركاء مع أمريكا فى أى مؤامرات ضد دول المنطقة المهمة، وفى نفس الوقت يمنحون إسرائيل كامل الحرية لالتهام أراضى الفلسطينيين، وفى الفترة الأخيرة تلعب قطر هذا الدور على المكشوف، وخذ ما فعلته فى ليبيا كمثال.
* الكثيرون يرون أن قطر أسدت معروفا لليبيين بتخليصهم من القذافى المستبد؟
- ليأتوا برئيس آخر (رئيس المجلس الانتقالى)، كان وزيرا للعدل فى عهد القذافى، وهو الذى أصدر حكم الإعدام على الممرضات البلغاريات! قطر كان دورها تفتيت ليبيا وليس التخلص من القذافى. دول الخليج لم يكن -كما قلت لك- لها أى وزن يذكر حين كانت مصر ناهضة تحت حكم عبدالناصر، وحتى بعد أن تدفق البترول من أراضيهم كان دور مصر التحررى أقوى بكثير من أموالهم. ولدى صورة قديمة للملك فاروق وخلفه يصطف أمراء الدول الخليجية بشكل يعكس ضآلة أوضاعهم. ولا سبيل أمامهم لاكتساب مكانة ودور فى المنطقة إلا بغياب مصر والدول العربية الكبيرة الأخرى، وهنا تلتقى مصالحهم مع المشروع الأمريكى.
* وما أبرز ملامح المشروع الأمريكى الذى تشير إليه؟
- مشروع الولايات المتحدة، المدعوم بدرجات مختلفة من حلفائها فى أوروبا واليابان، هو أن تقيم سيطرة عسكرية فوق كامل الكوكب. لتحقيق هذا الهدف لا بد من السيطرة الكاملة على منطقة الشرق الأوسط التى تلعب حجر الزاوية فى هذا المشروع لأربعة أسباب؛ أولها وفرة النفط فى المنطقة، ثانيها وقوع المنطقة على تقاطع الطرق فى العالم القديم مما يتيح لأمريكا تهديد الصين -منافسها الأبرز الآن- مستقبلا، وثالثها ضعف بلدان المنطقة مما يُسهل السيطرة عليها، ورابعها وجود إسرائيل -الحليف الأبدى لواشنطن- فى المنطقة. وفى إطار هذا المشروع نستطيع أن نفهم أحداثا كثيرة منها ضرب العراق وأفغانستان والتربص بإيران، فالعدوان على هذه الدول تم لأنها كانت تمثل عقبات أمام بسط كامل سيطرة الأمريكان على المنطقة، مما يمكنها من احتواء الصين بالدرجة الأولى والهند وروسيا بالدرجة الثانية. والصين مدركة لهذا، وتعلم -مثلا- أن ضرب أفغانستان والعراق ومحاولة تفتيت سوريا الآن يستهدفها مستقبلا، ولذلك فهى وروسيا يعارضان التدخل العسكرى الأمريكى فى سوريا.
* وكيف تلتقى مصالح الإخوان والأمريكان فى المنطقة؟
- الإخوان بالقطع جزء من المشروع الأمريكى الذى ساندهم تماما، كما ساندتهم السفارة البريطانية منذ نشأتهم فى عام 1927 فى مواجهة الوفد الذى كان يمثل -إلى حد ما- نهضة مصر. والأمريكان يدعمون الإخوان لسببين؛ أولهما أن الإسلام الرجعى الذى يمثلونه سيضمن عدم نهضة مصر، والثانى أن آراءهم المعادية للحريات الدينية والحريات الشخصية ستعزز «الإسلاموفوبيا» فى العالم.
* نحن هنا نختلف ونتفق مع جماعة الإخوان، لكن لا أحد يتهم الجماعة بأنها جزء من المشروع الأمريكى؟
- يجب أن تعلم أن الإسلام السياسى الذى يمثله الإخوان ليس حركة دينية نابعة من الإيمان البرىء بتعاليم الإسلام، بل هى حركة سياسية تخدم مصالح الدول الكبرى. وقد جرى اختراع «الإسلام السياسى» الحديث فى الهند على أيدى مستشرقين إنجليز لخدمة السلطة البريطانية، ثم تم تمريره لأبى الأعلى المودودى الباكستانى الذى تبناه وبشر به. خلاصة منهج المودودى -الذى دعا لفكرة «حاكمية الله»- أن المسلم لا يصح أن يعيش فى دولة غير إسلامية، وبذلك مهد لتقسيم الهند بانفصال باكستان عنها، وهو ما يصب فى صالح الدول الكبرى. والإسلام السياسى يدعو إلى الخضوع لا التحرر، ولذلك تجدهم متحالفين مع نظم فى غاية التسلط مثل السعودية وباكستان. المحاولة الوحيدة لقراءة الإسلام فى اتجاه التحرر كانت تلك الخاصة بالمفكر الإسلامى السودانى محمود طه، ولم تحاول أية حركة إسلامية «لا راديكالية ولا معتدلة» أن تتبنى أفكار محمود طه الذى أعدمه نظام نميرى فى السودان بتهمة الردة!
* لكن عودة لسؤالى الرئيسى: ما الحل للخروج باقتصادنا من عنق الزجاجة؟
- للخروج من دوامة الفقر والبطالة، لا بد من الخروج من منطق سيادة الأسواق الحرة، والتخلص نسبيا وتدريجيا من التبعية المطلقة للولايات المتحدة وحلفائها وخصوصا دول الخليج، وإقامة علاقات قوية مع الدول البازغة خصوصا الصين والهند والبرازيل وروسيا. هذه الدول نجحت -بدرجات مختلفة- فى تحدى النموذج الاقتصادى الذى تريد الولايات المتحدة فرضه على العالم، لكن للأسف الرئيس الجديد غير قادر على إدراك هذا التحدى ولا أنتظر منه القيام بأى إصلاح، فهو ينتمى لجماعة شاركت فى تخلف مصر اقتصاديا. حمدين صباحى كان الأمل الوحيد فى مواجهة سيطرة رؤوس أموال الخليج، وتحدى الخضوع الكامل لأهداف السياسة الأمريكية، لذلك كان من المستحيل أن تسمح واشنطن بدخوله الجولة الثانية. أنا غير مقتنع بأنه حصل على نسبة أقل من شفيق، وتقديرى أنه قد تم التلاعب بالنسب بحيث يخرج من السباق ويظل التنافس بين مرشحين ممثلين لمصالح الولايات المتحدة المسيطرة ونظام السوق الحرة.
* معنى ذلك أنك لا تأمل خيرا فى الرئيس الجديد؟
- لا شىء سوى استمراره فى نفس السياسة الاقتصادية السائدة التى جرت علينا كل مشكلاتنا، لكن إذا أراد إنقاذ الاقتصاد المصرى كما تقول فعليه أن يعطى دورا أكبر للدولة ويترك الحرية الحقيقية للنقابات وحركة صغار الفلاحين والحركات التى تولدت عن 25 يناير، أى يلعب بكارت الإصلاح الاجتماعى.
* كلامك يحمل نبرة يأس وتشاؤم؟
- لا إطلاقا، أنا متشائم على المدى القصير، لكنى متفائل على المدى الطويل وواثق أن الثورة ستفرز كوادر كثيرة قادرة على قيادة مصر.
* لك رأى سلبى فى الدكتور البرادعى، فلماذا؟
- لا سلبى ولا إيجابى، أنا فقط أعتقد أنه ليس على المستوى المطلوب لقيادة مصر، فمفهومه عن الإصلاح يقتصر على انتخابات حرة واحترام دولة القانون، ولا يعلم شيئا عن جذر مشاكلنا وهو الاقتصاد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نيويورك تايمز: بوتين من الانزلاق من رجل دولة إلى طاغية !

ريتا محمود درويش هل هي تمارا بن عامي أم تانيا رينهارت ؟ The Beloved Jewish

الحراكات والإسلاميين ينظمون مسيرة اصلاحية كبرى عشية الإنتخابات