أبو ماهر اليماني.. يعود إلى سحماتا ومجموعات سعدات تبدأ بكشف اعضاء المكتب السياسي المرتشين من سلطة اوسلو


مجموعات سعدات تبدأ بكشف اعضاء المكتب السياسي المرتشين من سلطة اوسلو
نفى أبو جمال، الناطق الإعلامي لكتائب الشهيد أبو علي مصطفى، الأمين العام السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، صحة بيان صدر بتوقيع إنتحل إسم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين/ مجموعات الأمين العام الرفيق أحمد سعدات".
وقال في تصريح حصلنا على نسخة منه:
فقط نقول لمن يلعب على وتر الانقسامات والانشقاقات، انتم فاشلون كثيرا، وسعدات يتبرأ منكم ولا يشرفه ان تحملوا اسمه والادعاءات واثارة الفتن، خاصة في هذه الظروف، ومحاولاتكم البائسة لاضعاف موقف الجبهة.
من دفع لكم لن يثني الجبهة عن مواقفها وعن السير في ثبات على خطاها، وانتم كغيركم فاشلين في زعزعة وحدة الصف الجبهاوي واستغلال الظروف لتظهروا عبر بيانات مسمومة لتبثوا سمومكم وحقدكم على الجبهة.
واضاف متسائلا: لماذا الآن بالذات، هل لأن الجبهة تدعو وتحشد لإنهاء الإنقسام..؟ تريدون حرف المسار و تروجون أنها اخذت اموال لزعزعة الأمن كما قال غيركم، لا بل أنتم انفسكم تحت مسميات متعدده.. الاعيبكم لن تنطلي على شبل جبهاوي، وستبقى الجبهة الشعبية وكتائب الشهيد أبو علي مصطفى لكم بالمرصاد.
هنا نص البيان الذي صدر بتوقيع "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين/ مجموعات الأمين العام الرفيق أحمد سعدات":
لنطهر بيتنا من العفن والرشوة وشراء الذمم وضمير القيادات قبل الحديث عن الثورات والمسيرات.تاريخنا وتضحياتنا ودماؤنا يا مجدلاوي ويا شحادة ليست سلعة بأيديكم لتقامروا بها من أجل المزيد من الانقسامات داخل صفوف رفاق الدم والسلاح.
يا رفاق الدرب الأحمر.. يا رفاق الشهيد جيفارا غزة وتلاميذ الدكتور المؤسس جورج حبش:
إن التاريخ لا يرحم، وإن الكلمات قليلة لوصف الحالة التي يعيشها مكتبنا السياسي بكافة قياداته وانعكاس الخلافات التنظيمية العليا على مستوى الكوادر والرفاق وكافة فروع الجبهة في الوطن والخارج، ولم يعد خافياً على أحد منا حجم الانقسامات القيادية التي باتت تهدد أركان وأسس وقواعد التنظيم بين مؤيد للخط الأوسلوي، وبين معارض له، فالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وعلى مر السنين لم تكن يوماً من الأيام إلا صاحبة المواقف الشجاعة والجريئة، وهي من علمت الآخرين فنون القتال والاشتباك والاختطافات وحصد رؤوس الأعداء، وهي صاحبة النقد البناء والانتقادات من أجل أن تطفو المصلحة الوطنية العليا على كل المصالح الحزبية والفئوية والشخصية، والتاريخ خير شاهد على مواقفنا. فنحن مازلنا متمسكين في مبادئنا وأهدافنا رغم محاولات البعض من قيادتنا حرف بوصلة واتجاه مشروعنا التحرري عن أهدافه ومبادئه التي انطلقت من أجلها الجبهة وقدمت العشرات من قادتها، والمئات من المقاتلين حتى ينعم الجميع بوطن حر ودولة فلسطينية كاملة السيادة، دون انتقاص من حقوق شعبنا وثوابته، أما اليوم فإننا على أعتاب مرحلة خطيرة تتطلب منا جميعاً الوقوف بحزم وشدة وصلابة في وجه المتسلقين المأجورين الذين استغلوا مواقعهم القيادية ويحاولون إنهاء الجبهة كتنظيم له وزنه وثقله وتاريخه، مقابل مبالغ مالية تم صرفها لهم للالتفاف على قواعد التنظيم واقناعها بالقبول بفكرة حزب اليسار الفلسطيني الموحد، وفق مزاجية وأهواء المنتفعين داخل منظمة التحرير الفلسطينية، وداخل المكتب السياسي للجبهة الشعبية.والأخطر من ذلك هو العمل على تفكيك البنية الداخلية لكتائب الشهيد أبو علي مصطفى في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتجهيز كشوفات العقود والمساعدات والتفريغات لكوادر وعناصر من الكتائب والجبهة وتوزيعهم على المؤسسات المدنية، واستئناف صرف الموازنات، وإيجار المقرات.. وكل هذا المخطط يأتي في سياق المنزلق الخطير لإنهاء روح المقاومة المسلحة والسيطرة على الجبهة داخلياً.
يا رفاق الشهيد أبو علي مصطفى، ويا رفاق أميننا العام أحمد سعدات..
لقد عزمنا الأمر على أن نكون المبادرين في الانتفاض والرفض للأفكار والإملاءات القيادية من مكتبنا السياسي، والتي يتم تمريرها علينا وتسويقها من أجل الاقتناع بها، ومن ثم تسويقها على كل قواعدنا التنظيمية، وهذا ما نرفضه جملة وتفصيلاً من قبل عرابين الخط الأوسلوي الذين باعوا ضمائرهم، ومبادئهم مقابل الاغراءات والرشاوى والامتيازات المكانية والوظيفية.
ولتوضيح الحقائق أكثر وأكثر فقد أجمعنا نحن رفاقكم في مجموعات الأمين العام الرفيق الأسير أحمد سعدات، بأن ننشر كل ما يدور في الغرف المغلقة وتحت الطاولات، ومن وراء الكواليس، وخلف ستائر الظلام من مباحثات وتفاهمات واتفاقيات بين أعضاء المكتب السياسي للجبهة، وبين قادة المنظمة، وسلطة أوسلو، ولنترك الحكم لكم على أعضاء مكتبنا السياسي:
أولاً: نعلن رفضنا المطلق لنتائج الاجتماع بين الرفيقة خالدة جرار عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية وماجدة المصري عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية والوزيرة في حكومة فياض والاتفاق  فيما بينهما على تشكيل إطار نسائي يساري يجمع بين الرفيقات من الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية تحت مظلة واحدة وتحت بند المؤسسات المدنية وإغلاق المكاتب النسائية للجبهتين.
ثانياً: نطالب بمحاسبة القيادي جميل المجدلاوي ومسائلته عن مصير 75 ألف دولار تم تحويلها له في منتصف شباط/فبراير من العام الجاري من الرئيس محمود عباس كدعم لمكاتب الجبهة الرئيسية والفرعية في قطاع غزة، في حين نفى الرفاق في القطاع استلامهم لأي مبلغ مالي من الرفيق جميل المجدلاوي.
ثالثاً: نستهجن قيام جميل المجدلاوي من إرسال صور فوتغرافية وشريط فيديو يظهر فيها الرفيق رباح مهنا أثناء تواجده في إحدى البارات في صالة فندق في إقليم الباسك في أسبانيا والقيام بالرقص وبيده زجاجة كحول يتناولها برفقة مسؤولين أسبان، ونستهجن موقف نائب الأمين العام عبد الرحيم ملوح من السكوت عن الابتزاز الذي يقوم به جميل المجدلاوي بحق قيادات وأعضاء الجبهة ونقول له: "صاحب البيت الزجاجي لا يرجم الناس بالحجارة، ومصيبة بيتك خير دليل ولا نريد أن نفضح".
رابعاً: نستنكر بشدة الأفكار والطروحات التي يسوقها جميل المجدلاوي من خلال اتصالاته التي يجريها، على قيادة وأعضاء الجبهة في الضفة الغربية للقبول بفكرة تفكيك البنية الداخلية لكتائب الشهيد أبو علي مصطفى في الضفة والقطاع مقابل تفريغات ومساعدات لعناصر الكتائب، ونؤكد تبرئتنا من الآن لأي مخطط يرسم معالمه جميل المجدلاوي، ونطالب بتجريده من عضوية المكتب السياسي ومحاسبته ومسائلته من خلال تشكيل لجنة تحقيق داخلية في الجبهة.
خامساً: نرفض وبشدة الاجتماع الذي دار بين عمر شحادة عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية في رام الله وبين توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية عن حركة "فتح"، والاتفاق فيما بينهما على العمل على تأجيج الساحة الوطنية الداخلية بعد التنسيق المشترك على دعم مسيرات في الضفة وغزة، رافعة شعاراً ظاهرياً بإنهاء الانقسام الوطني الفلسطيني، في حين أن هدفها باطنياً هو الاستمرار في تأجيج الوضع الداخلي نحو مزيد من الانقسامات، ونرفض وبشدة الأموال والمبالغ المالية المقدرة بـ 45 ألف دولار التي حصل عليها عمر شحادة لإرسالها للرفاق في القطاع من أجل تنفيذ ما هو باطني بالاتفاق بينه وبين الطيراوي، ولا ننسى بأن الطيراوي العميل الصهيوأميركي هو السبب الرئيسي في إقدام اسرائيل على اعتقال أميننا العام أحمد سعدات من سجن المخابرات في أريحا، وسيأتي اليوم الذي سيدفع فيه الثمن غالياً.
سادساً: نشيد بدور الرفاق والرفيقات الرافضين لما يتم تسويقه من أفكار ومبادئ مسمومة من بعض أعضاء المكتب السياسي للجبهة، وعلى رأسهم المجدلاوي، الذي انسلخ عن دمنا الأحمر القاني، وأصبح ينفذ أجندة خيانية، ونؤكد حرصنا على وحدة وتلاحم كل صفوف الجبهة.. وليكن شعارنا القادم لا للإملاءات السلطوية والأسلوية، ونعم للمحاسبة والشفافية في الهرم القيادي للجبهة.
عاشت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة
المجد للشهداء الأبرار والشفاء للجرحى الأبطال
والحرية لأسرانا البواسل والنصر للمقاومة
لا وألف لا لكل محاولات النيل من وحدة وتلاحم وتماسك الجبهة
نعم لمحاسبة كل المسؤولين المتورطين في تلقي الأموال وتنفيذ خطط دنيئة ومسمومة
         الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
        مجموعات الأمين العام أحمد سعدات
             الأربعاء 9/ 3/ 2011م


أبو ماهر اليماني.. يعود إلى سحماتا..
طلال سلمان
... ولما أيقن "أبو ماهر اليماني" أن الموت وحده هو طريق العودة إلى فلسطين مشى نائماً إليها.لكأنه استبق المزيد من الكوارث العربية التي كانت في طريقها لالتهام الغد العربي: محاولة ضرب مصر بالفتنة الطائفية وهي مثخنة بجراح الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي، والتشطير الذي سيمزق السودان دولاً شتى ستموت في حروب القبائل فوق الأرض المتفجرة بالثروة، وشهوة السلطة التي تتهدد اليمن في كيانها الطبيعي، والإنجاز التاريخي للاحتلال الأميركي في العراق ممثلاً بتشطيره كانتونات على الطوائف والمذاهب والعناصر والأعراق ومن بعد على القبائل والعشائر..أما لبنان الذي صار بالقسر وطنه الثاني فقد عاش أبو ماهر اليماني سنواته الأخيرة في قوقعة حزنه عليه وعلى الأذى الذي ألحقته به "الثورة" التي اغتالتها شهوة السلطة بعدما انشغلت بـ"مباهجه" عن الحروب الأهلية التي يستبطنها نظامه الفريد.ولقد عرفت أبا ماهر اليماني في مخيم البداوي قبل حوالى أربعين سنة، وهو يتقبّل التبريك باستشهاد شقيقه على طريق فلسطين، بعد سنة واحدة على هزيمة 1967: سننهض من جديد. لن تسقط هذه الأمة ولاّدة الشهداء!أما في بيروت فكان أبو ماهر يملأ المخيمات والشوارع والأندية والتجمعات حيوية وصدقاً وتنظيماً وحماسة... وكان لا بد أن تلتقيه كل يوم، وهو يمشي في اتجاه فلسطين.. عبر وحدة الأمة.ومع رحيل كل رفيق في حركة القوميين العرب خاصة، أو من ثوار فلسطين عموماً، كان أبو ماهر ينتدب نفسه لتعويضه: هكذا كان بعد رحيل غسان كنفاني والدكتور وديع حداد، ثم بعد رحيل الدكتور جورج حبش، ثم بعد رحيل ياسر عرفات.. فالخلاف إنما كان حول العودة إلى فلسطين وليس عليها.ابن سمحاتا في قضاء عكا، النقابي، المعلم، المناضل، القائد الجماهيري، الإنسان الطيب، الصادق، الطاهر، الذي استعصى على الإفساد والذي رفض أن يستقيل من النضال حتى النفس الأخير، غادرنا بالأمس منطوياً على أحلامه التي هدّه اليأس من استحالة تحقيقها.لكنّ أبا ماهر ترك خلفه كتيبة من المناضلين لتتابع الطريق نحو المقدسة فلسطين..

"أحمد اليماني في مذكراته: فن العودة إلى فلسطين بالكلمة"

كتب صقر أبو فخر في "السفير 23/08/2007":
عاشت فلسطين تحت أجفاننا حلماً بهياً، وطالما طرّزت مخيلتُنا هذا البهاء بألف لون ولون. ومنذ يفاعتنا حفظنا خريطتها كما حفظنا ظاهر كفنا: قرية قرية وخربة خربة. وكان المخيم هو المكان الدافئ الذي نسجت المخيلة الفلسطينية فيه صور الأمس وروعته الآسرة والحنين الدائم. ولولا المخيم لما تمكن الفلسطينيون من الاحتفاظ بذاكرتهم المعذبة وتذكاراتهم الأليفة. وتحت عرائش السطوح ابتكر الفلسطينيون طرائق مدهشة لبقائهم. أما سكان المخيم فهم، في معظمهم، فلاحون تحولوا بين ليلة وضحاها، الى لاجئين في مخيمات غريبة لم يألفوا صورتها البتة. لكنهم، على الرغم من تصاريف الدهر القاسية، جعلوا من سطوح منازلهم ما يحاكي اخضرار القرى في منابتها الأصلية. وفوق سطوح هذه المنازل بالذات عرّشت دوالي العنب لتلوّح لكروم الجليل، وأينعت رياحين شتى لتستحضر، بقوة المخيلة، تلال الكرمل وأزهار المراعي في فلسطين.وكي لا يفلت هذا البهاء كله من شباك الأيام وشقوق الأزمنة، انصرف أحمد اليماني الى التقاط ما أمكنه من تفصيلات الحياة اليومية في فلسطين، فجاءت مذكراته شاملة وغنية، تماماً مثلما تكون كتب السِيَر والذاكرة والأمكنة. وها هو، بعدما أفنى أياماً طويلة من عمره المديد في النضال الفلسطيني يقدم إلينا مذكراته لتكون ذخيرة لفلسطين التي لن تكف عن التوهج في وجداننا أبداً.ومذكرات أبي ماهر اليماني طراز محبب في الكتابة عن المكان وعن الماضي، وهي محاولة لإعادة رسم صورة فلسطين، لا كما عاشها المؤلف فحسب، بل كما استقرت عليها حياة الفلسطينيين في المخيم أيضاً. إنها، بلا ريب، أحياء للذاكرة القريبة حتى لا تتلاشى، وكي تبقى فلسطين متقدة في الفؤاد بأجمل ما يكون الاتقاد والاشتعال. وهذا الكتاب نموذج في فن العودة إلى فلسطين، لكن بالكلمة هذه المرة.
هكذا عرفته
لعل من حسنات أيامي أنني عشت في زمن أحمد اليماني ورفاقه من صانعي مجد الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة أمثال ياسر عرفات وجورج حبش وخليل الوزير. وسأغتنم "السلطة" الممنوحة لي هنا على الورق لأروي أنني في أوائل سبعينيات القرن العشرين، حينما بدأ وعينا النقدي يتبلور مع صعود الكفاح المسلح الفلسطيني، كان أبو ماهر اليماني يشد انتباهنا كقائد لامع في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومكافح مشهود له في حركة القوميين العرب، وعضو مشاكس في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. ومع هذا تأخرت معرفتي المباشرة به حتى أوائل سنة 1974 على الأرجح، عندما كان السجال السياسي الصاخب قد بلغ مداه في تلك الحقبة بين فكرة الدولة الفلسطينية على الضفة والقطاع، وأنصار تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني. وجرى اللقاء، عفوياً، قبالة جامعة بيروت العربية. كان أحمد اليماني يسير في تلك المنطقة ماشياً بلا حراسة أو مرافقين، فتحلقنا حوله، نحن مجموعة من الشبان الرافضين الناقمين، وتحدثنا في فكرة الدولة الفلسطينية. وأتذكر أنني دُهشت كيف أن هذا القائد يمشي وحده، هكذا مثلنا نحن، بينما كان مَن هو أدنى منه منزلة بكثير لا يرتضي أقل من أربعة مرافقين.هذا هو أبو ماهر اليماني الذي كان لا يأوي إلى منزله قبل أن يجوس في أزقة المخيم ليباغت مَن ما زال من تلامذته يتسكع لاهياً كاسلاً عن فروضه فيقرعه تقريعاً. وكم شوهد وهو يطرق أبواب المنازل في الليل ليطمئن هل أن طلابه يذاكرون دروسهم حقاً، وأنهم ما ناموا قبل أن ينجزوا فروضهم.هذا هو أبو ماهر كما عرفته وسمعت عنه. لكن ماذا عن أحمد حسين اليماني كما ظهر في مذكراته الخماسية الموسومة بعنوان: "تجربتي مع الأيام" (دمشق: دار كنعان للدراسات والنشر، 2006)؟
الفردوس المفقود
لا أجازف في القول إن هذه المذكرات التي قدم لها جورج حبش مؤسس حركة القوميين العرب هي، في بعض جوانبها، استعادة للفردوس المفقود في قريته سحماتا، واستحضار للأمكنة الحميمة التي لم تبارح مخيلة أبو ماهر على الإطلاق.إنها نداء الحنين إلى حواكير العريشة وإلى الوعر الشمالي ووادي الحبيس، كأن أبو ماهر لم يغادر فلسطين قط، وكأنه ما زال واقفاً، في كل يوم، عند مفترق البقيعة وحرفيش يجول بخياله المتألم في أرجاء هذا الجمال الباهر، من ترشيحا ودير القاسي وكفرسميع وبيت جن حتى فسوطة ومعليا والرامة ويانوح والجاعونة والصفصاف. وهذه المذكرات تفصح عن ذاكرة عجيبة ما زالت توغل في التفصيلات الدقيقة من غير أن تغفل أدق الصور، وكأن أبو ماهر لم يرتحل عن سحماتا؛ فهو يسترسل في وصف منزله القائم على أربع قناطر حجرية تحمل سقفاً من الخشب الوعري الذي تعلوه طبقة من التراب. وفي كل شتاء، حينما تنهمر المزن، تبدأ حفلة الدلف والحدل والطين المطيّن. وهذا الرجل الذي نشأ في هذا المنزل البسيط ما زالت ذاكرته مغمسة بصور التبان وقن الدجاج ورف الحمام واسطبل الدواب والمصطبة وحصيرة القش وموقد النار وخابية الزيت والكوارة وصندوق الملابس وسراج الزيت وبابور الكاز وعرائش الحواكير وبئر الماء وبيادر الصيف ورجوم البراري.يتقافز أبو ماهر اليماني من بين صفحات هذه المذكرات كطفل قروي فقير. وأتخيله يلعب في أزقة القرية بالبنانير، أو يسبح في بركة الماء بشنتان بوبلين، أو يرشق أشجار الجوز بالحجارة، أو يتسلق شجرة التين، أو يدمي يديه بشوك الرمان، أو تنغرز إبر الصبار في أصابعه. ومن ذاكرة تلك البقاع الخضر يغرف أبو ماهر حكايات الفقر والعذاب، ويغزل بالكلام صور المعاناة والأرجل الحافية وسني الشقاء. ومع ذلك يروي، بفرح ولذة، كيف أشرف، في إحدى المرات، على الموت غرقاً في الوادي الذي يفصل سحماتا عن ترشيحا حينما علق تحت الجسر، وكاد السيل يجرفه، ولم ينقذه غير والده الذي كان يراقبه من موقع "الرحراح"، فانتشله وأوصله إلى ترشيحا مبللاً. وفي منزل محمد دباجة أوقدت زوجته النار كي يجفف هذا الطفل الوادع ملابسه، لأنه لم يكن يمتلك غيرها لتبديلها.إنه الفقر الذي ما زال محفوراً في ذاكرة أحمد اليماني كالوشم الدامي. وأحمد اليماني الذي تعلّم في ثانوية صفد بتنكتي زيت، واحدة لأجرة الغرفة، وواحدة لمصروفه الذي لم يتجاوز 30 قرشاً في الشهر، عرف ضروباً من الألم التي طالما احتملها بصبر وكرامة. وكم أحس بالمرارة عندما لم يتمكن من استقبال معلم الرياضيات في منزله، فاستقبله في منزل خاله. وكم تعذب حينما سرق له زميله في السكن مصروفه الشهري، فأكل"قتلة" من والده، ولم يأكل بعض وجبات طعامه غيظاً وتقتيراً. وكان غيظه أشد إيلاماً من كفي والده. وربما فاق شعوره بالحرج آلامه عندما لم يستطع، في الكلية العربية في القدس، أن يشتري اللباس الموحد الإلزامي، فتبرع حامد أبو ستة له بالجاكيت، وقدم له محمد يوسف نجم ربطة العنق. ويبدو أن محمد يوسف نجم كان صاحب "مقالب" في الكلية العربية. وها هو أبو ماهر يخبرنا كيف صاغ محمد يوسف نجم إعلاناً تهكمياً عن مزرعة يمتلكها شقيق معلم الاجتماعيات يدعى الحاج مير. ويقول الإعلان: "أيها الأهل الكرام، أيها السادة العظام، حافظوا على صحتكم وصحة عيالكم، وخاصة صحة أبنائكم، واشربوا حليب الحاج مير، وكلوا بيضات الحاج مير، وشوفوا بعد ذلك صحتكم كيف بدها تصير".إن الإحساس بآلام الفقر لم يحوِّل أبا ماهر الى شخص باحث عن الثروة، بل أمده بوعي اجتماعي، فأيقن أن سبيل الفكاك من الفقر هو الكفاح من أجل العدالة الاجتماعية لا الجري المتوحش وراء المال. ولهذا التحق مبكراً بالعمل النقابي، وناضل في صفوف "جمعية العمال العربية الفلسطينية"، ثم اشتبك نضاله الاجتماعي بنضاله الفلسطيني. وهذه المسيرة الطويلة منحت أبا ماهر اليماني هذا الحضور المتألق، ومنحتنا نحن أيضاً مثالاً نادراً للنزاهة.
خمسون عاماً من العواصف
طالما اعتقدت أن عائلة أبي ماهر تتحدر من اليمن مثل الكثير من العائلات العربية. لكن هذه المذكرات أوضحت لي أن "اليماني" لقب أُطلق على جده أحمد لأنه خدم طويلاً في الجيش العثماني في اليمن من دون أن تعلم عائلته عنه أي خبر. وعندما عاد بعد خمسة عشر عاماً اكتسب كنية "اليمني" في البداية، ثم "اليماني" في ما بعد. وهذه المذكرات التي تغطي نحو خمسين سنة من الأحداث العاصفة التي شهدتها فلسطين والدول العربية المجاورة، ليست مجرد سيرة ذاتية لصاحبها، وإنما هي سيرة وتأريخ وتوثيق في آن؛ فهي تروي صفحات شبه ضائعة من تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية مثل تأسيس "المنظمة العسكرية الفلسطينية"، وتميط اللثام عن أسماء المؤسسين الأوائل وهم: فايز فضة وصالح قاسم ومحمد عطوي وخالد عبد الوهاب وأبو ماهر نفسه. كما أنها تروي كيف رأى والده في منامه أن اليهود اعتقلوا ابنه أحمد (أبا ماهر) ثم قتلوه. فتوجس واضطرب، ولم يلبث أن غادر قريته إلى عكا ثم إلى حيفا ليبحث عن ابنه. وظل يومين بليلتين من دون نوم. وفي أحد منعطفات ميناء حيفا شاهد أبو ماهر والده نائماً على الأرض وقد هدّه التعب. فعاد وإياه الى سحماتا، ثم بدأت مرحلة جديدة في حياته. وفي هذه المرحلة سقطت البلدات المجاورة لسحماتا في أيدي "الهاغاناه"، فيروي قصة سقوط شفاعمرو والناصرة وترشيحا وقصف معليا ومعركة الشجرة، وكيف تهدمت بيوت سحماتا وتصدعت جدران منزله، الأمر الذي أرغم والديه على اللجوء الى المغارة في كرم الزيتون. ولعل أقسى المواقف وقع عندما رفض مغادرة سحماتا، وبقي مع أهله حتى سقطت قريته، فاعتقل وطرد أهله الى لبنان.وعندما أطلق سراحه، في ما بعد، سيق الى بلدة المنصورة، وهناك قال له الضابط الإسرائيلي: "انظر، تلك هي الأراضي اللبنانية. اذهب، وإياك أن تفكر في العودة. سِرْ مباشرة، وإياك أن تلتفت الى الخلف، وستصل الى بلدة رميش، ومن هناك تدبر أمرك".وبدأت رحلة المنفى الى رميش فبنت جبيل وصور وطرابلس، وهناك عثر على عائلته في عنابر الميناء. ومنذ تلك اللحظة سيدشن أبو ماهر اليماني طوراً جديداً في حياته كان من علاماته أنه دخل السجن نحو 55 مرة. وهذه المذكرات تكشف بعض الجوانب المبكرة من تلك المرحلة، وكيف اشترى أبو ماهر رشاشاً من طراز كارلو من قرية حبوش الجنوبية، وكيف جرى تفكيكه كي يتسنى لأم ماهر أن تنقله الى مخيم النبطية مخفياً في قماط ابنها مهند. وتعيد هذه المذكرات رواية العملية العسكرية الأولى لحركة القوميين العرب التي قامت بها مجموعة "شباب الثأر" في 2/11/1964 واستشهد فيها خالد الحاج أبو عيشة. والى ذلك تروي، بالتفصيل، وقائع استشهاد شقيقه محمد اليماني في العملية الثانية للحركة في 18/10/1966 التي استشهد فيها سعيد العبد سعيد ورفيق عساف وأسر سكران سكران.
مثل صبار الوعر
إذا كانت الفاقة والأحوال العسيرة أوقدت الشعور بفقدان العدالة الاجتماعية لدى أحمد اليماني، فإن الاستعمار الإنكليزي أشعل في فؤاده جذوة النضال الوطني. وقد احتفظ هذا السحماتي الرقيق في خياله وعقله بثلاث وقائع ربما تكون قد ساهمت في تكوين وعيه السياسي. وربما كان السابع عشر من حزيران 1930 الواقعة الأولى أو بداية التكوين السياسي لأبي ماهر؛ ففي هذا اليوم شاهد بأم عينه الشهداء الثلاثة، شهداء ثورة البراق (فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير) معلقين في باحة سجن عكا المركزي. وكان ذلك اليوم هو المرة الأولى التي يغادر فيها أبو ماهر القرية.أما الواقعة الثانية فتقول إنه بينما كان ذاهباً مع والده لحراثة "أرض القواطيع" بين سحماتا وترشيحا صادفتهما دورية إنكليزية، وعلى الفور بادرت عناصر الدورية والده بالضرب وألقت به أرضاً، وراح أحد أفراد الدورية يضربه بالمنساس حتى أدماه، ثم اقتادوه وسجنوه عدة أيام. والواقعة الثالثة أن هذا الوالد المجروحة كرامته لم يتخلف عن الالتحاق بثورة 1936 بعد أن باع البقرة واشترى بندقية.هذه الوقائع التي شكلت المداميك الأولى للوعي السياسي لدى الفتى أحمد، أينعت، في ما بعد، حقولاً من الوطنية الصافية، وراحت هذه الحقول تتفتق أزهاراً ورياحين وزنابق، اشتممنا عبيرها في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني العظيمة، وكان هذا العبير يفوح في صورة مناضلين هنا وشهداء هنالك.منذ نحو ثلاثين سنة أعرفه. وديع كحمائم البيادر، جريء في قول ما يعتقد، أصيل في انتمائه الى العروبة، صلب كصخر البازلت، شديد كمطارق الحديد على من تهاون، ثابت كزيتونات الجليل، شوكي مثل صبار الوعر، رقراق كمياه الوديان في الكرمل، متجذر لا تتمكن الأيام منه، راسخ تعجز الأحوال المتقلبة عن تقليب مبادئه. ومنذ أكثر من ثمانين سنة وأبو ماهر ما برح فقيراً مثلما ولد في سحماتا ومثلما كان في جمعية العمال العربية الفلسطينية، ومثلما هو الآن، وما زال يجمع أناشيد الفتوة في فلسطين ليعلمها للفتيان في لبنان.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البرنامج "الثقافي والوطني " للتيارات المؤتلفة في رابطة الكتاب الأردنيين والانتخابات 27 نيسان

بيان صادر عن ملتقى الهيئات الثقافية الأردنية وشخصيات وطنية حول الأونروا

صحافيون من أجل فلسطين تدعو لحملة تواقيع لتحريك شكوى لدى الجنائية الدولية